الحلقة الثالثة
وفي سبيل تنفيذ مخطط أحمد باشا شن على عسير هجوماً من اتجاهين : فالهجوم الأول عن طريق القنفذة والهجوم الثاني عن طريق الحجاز وذلك بهدف تشتيت قوات عسير .
وأمام إصرار أحمد باشا على مهاجمة عسير مرة أخرى أنقسم أهالي عسير إلى فريقين .
فريق أنه يرى أنه لا مناص من الصمود والوقوف في وجهة القوات المهاجمة بكل شجاعة وثبات ، وفريق آخر يرى أن إعلان الخضوع والموافقة على السلام مع أحمد باشا يجنب البلاد ويلات الحروب وأضرارها.
ولكن في النهاية تغلب الجانب المتشدد وقرر أهل عسير مواصلة التصدي لقوات محمد علي ، وتوجهت حملة كبيرة إلى عسير ، وتمكنت من التوغل داخل عسير حتى وصلت إلى مناظر ، وقام كثير من قبائل عسير بطلب الأمان من أحمد باشا ، أما ابن مجثل و سعيد بن مسلط فقد طلبا الأمان على أساس الاستقلال رجال ألمع تحت حكمهم فقط ، ولكن أحمد باشا رفض هذا العرض ظنا منه أنه سيتمكن من تحطيم ذلك المعقل الأخير .
نلاحظ من خلال دراسة الوثائق السابقة أن أحمد باشا يحاول التقليل من قوة العسيرين. فقد رفض أحمد باشا الموافقة على التنازلات التي قدمها ابن مجثل ، ظنا منه أن سيتمكن من القضاء عليه بسهولة ، وكان هدف أحمد باشا الغدر بأمير عسير وإلقاء القبض عليه ، حيث تقول الوثيقة : ( ولما كانت مطالبهم هذه غير لائقة فقد أجبتهم وأفهمتهم أنه لا يعطى من قبلنا أماناً مثل هذا ، فإذا رغب الشقي المذكور أعطى الأمان لنفسه ، وقد أعيدوا بهذا الجواب وإلى الآن لم يعد الرجال المذكورين إلى طرف عبدكم . وأن مراد عبدكم أنه إذا قبل بمثل هذا الأمان أعطى إليه على أمل القبض عليه بعد ذلك ) .
وكان من نتيجة تعنت أحمد باشا واستهتاره بقوة العسيرين أن وقع في مأزق حقيقي ، حيث وصل إلى أبها بقواته ، ثم انقطعت الاتصالات بينه وبين السواحل . بسبب سيطرة ثوار عسير على المناطق الواقعة بين أبها وبين المواني الرئيسة لعسير مثل القنفذة وعتود . وقد بلغ من تأزم الموقف أن رسولاً بُعث إلى أحمد باشا عجز عن الوصول إليه في أبها ، على الرغم من محاولته التنكر بزي أعرابي إلا أنه أخبر في الطريق أنه سيقع في يد العسيرين إن آجلاً أو عاجلاً لذا فقد قرر العودة إلى جدة مرة أخرى دون أن يتمكن من مقابلة أحمد باشا المحاصر في أبها .
ومما ورد في تلك الوثيقة : ( فذهبت من جدة إلى القنفذة ومنها إلى مرفأ عتود الذي هو تحت مأمورية الشريف علي بن حيدر فطلبت من الشريف المذكور استحصال وسيلة للمسير بهجان في ريق مسلوك يوصل إلى طرف ولدكم المحافظ المشار إليه ومعسكر جيشه ، ولكن لم نتمكن من استحصال طريق للمسير حيث أجابني الشريف قائلاً : إن أشقياء عسير الذين لم يدخلوا في الطاعة يتجولون في الطريق من مرفأ عتود إلى عقبة مناظر )) .
وأزداد الأمر سوءاً عندما قام أحمد باشا بمحاولة للهجوم على السقا عاصمة عسير ، ومن ثم النزول إلى رجال ألمع بهدف القضاء على القوة الموجودة لعسير هناك . وعلى الرغم أن أحمد باشا تمكن من استقطاب بعض ضعاف النفوس من قبائل عسير التي استولى عليها وضمهم إلى جيشه ، إلا أن ذلك لم يجد شيئاً ، حيث حاول إنزال هؤلاء العسكر العرب إلى رجال ألمع لمهاجمة قوات عسير المتحصنة هناك ، فلقيت تلك القوات هزيمة شنيعة ووقع قائدها أغا مانع(1) أسيراً في أيدي رجال ألمع .
وقد أدى هذا التغير إلى ارتفاع الروح المعنوية بين رجال عسير ، فتقدموا من رجال ألمع إلى السقا حيث كان تمركز أحمد باشا وقاموا بمهاجمة قواته ، فحاول الانسحاب إلى طبب ولكن العسيرين أخذوا في ملاحقته أثناء ألانسحاب ، مما ألحق أقدح الخسائر بقواته إضافة إلى الاستيلاء على معظم المؤن والعتاد الحربي الذي كان في معسكر أحمد باشا ، وقد اضطرت هذه الهزيمة أحمد باشا إلى توقيع صلح مع عسير ، ويعترف بموجبه باستقلال مناطق عسير الممتدة من بلسمر وبارق شمالاً إلى حدود أبي عريش جنوباً ، وفي نفس الوقت سمح العسيرين لأحمد باشا بالجلاء بقواته نهائياً من عسير حيث أتجه بقواته إلى القنفذة ومنها إلى الحجاز .
ولم يمكث أمير عسير آنذاك طويلا بعد هذا الانتصار الكبير ،حيث وافته المنية في شهر صفر 1241هـ /1826م ، فتولى بعده ابن عمه علي بن مجثل ، وكان بمنزلة أمير عسير أثناء حياته ، وكانت ولايته قد حظيت بموافقة أهل عسير جميعاً .
وقد ظلت عسير صامدة في وجه محاولات محمد علي للاستيلاء عليها طوال فترة حكم علي بن مجثل ، الذي تولى الإمارة من عام 1241هـ إلى 1249هـ ، وكان موقف عسير قد أصبح أكثر قوة في أيامه مما كان عليه الحال أيام سعيد بن مسلط ، لأن عسير خلال حكم سعيد بن مسلط امتصت كل الهجمات والمحاولات التي قام بها محمد علي وأشراف الحجاز لاستعادتها ، بل أخذت تعمل على توسيع حدودها في المناطق المجاورة لها من الحجاز وتهامة مستغلة الظروف الصعبة التي كان يمر بها حكم محمد علي في الحجاز .