المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أمي . . !


الصفحات : [1] 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16

أفلاطون
03-06-2008, 10:26 PM
أكبر وانا عند امي صغير ، أشيب وأنا لديها طفل ، هي الوحيدة التي نزفت من أجلي دموعها ولبنها ودمها ، نسيني الناس إلا أمي ، عقني الناس إلا أمي ، تغير علي العالم إلا أمي ، الله يا أمي : كم غسلت خدودك بالدموع حينما سافرت ! وكم عفتِ المنام يوم غبت ! وكم ودعت الرُقاد يوم مرضت ! الله يا أمي : إذا جئتُ من السفر وثقتِ بالباب تنتظرين والعيون تدمع فرحاً ، واذا خرجت من البيت وقفتي تودعينني بقلب يقطر أسى ، الله يا أمي : حملتِني بيت الضلوع أيام الآلام والأوجاع ، ووضعتيني مع اهاتك وزفراتك ، وضممتِتي بقبلاتك وبسماتك.

الله يا أمي : لا تنامين أبداً حتى يزور النوم جفني ، ولا ترتاحين أبداَ حتى يحل السرور علي ، إذا ابتسمتُ ضحكتِ ولا تدرين ما السبب، وإذا تكدرت بكيتِ ولا تعلمين ما الخبر ، تعذريني قبل أت أخطئ ، وتعفين عني قبل أن اتوب ، وتسامحيني قبل ان اعتذر ، الله يا أمي : من مدحني صدقتِه ولو جعلني إمام الأنام وبدر التمام ، ومن ذمني كذبته ولو شهد له العدول وزكاة الثقات ، أبداً أنتِ الوحيدة المشغولة بأمري ، وانت الفريدة المهمومة بي .

الله يا امي : أنا قضيتك الكبرى ، وقصتك الجميلة ، وامنيتك العذبة ، تحسنين إلي وتعتذرين من التقصير ، وتذوبين علي شوقاً وتريدين المزيد ، يا أمي : ليتني أغسلُ بدمع الوفاء قدميك ، وأحمل في مهرجان الحياة نعليك ، يا أمي : ليت الموت يتخطاك إلي ، وليت البأس إذا قصدك يقع علي :

* نفسي تحدثني بأنك متلفي - روحي فداك عرفت أو لم تعرفِ

يا أمي كيف أرد الجميل لكِ بعدما جعلتِ بطنك لي وعاء، وثديك لي سقاء ، وحظنك لي غطاء؟ كيف أقابل إحسانك وقد شاب رأسك في سبيل إسعادي ، ورق عظمك من أجل راحتي ، واحدودب ضهرك لأنعم بحياتي؟ كيف أكافئ دموعكِ الصادقة التي سالت سخصية على خديكِ مرة حزناً علي ، ومرة فرحاً بس ، لأنك تبكين في سرائي وضرائي ؟

يا أمي أنظر إلى وجهك وكأنه ورقة مصحف وقد كتب فيه الدهر قصة المعاناة من أجلي ، ورواية الجهد والمشقة بسببي ، يا أني أنا كلي خجل وحياء ، إذا نظرت إليك وانت في سلم الشيخوخه ، وأنا في عنفوان الشباب ، تدبين على الأرض دبيباً وأنا أوثب وثباً ، يا أمي انت الوحيدة في العالم التي وفت معي يوم خذلني الأصدقاء ، وخانني الاوفياء ، وغدر بي الأصفياء ، ووقفت معي بقلبك الحنون، بدموعكِ الساخنة، وبآهاتك الحارة ، وبزفراتك الملتهبة ، تضمين ، تقبلين ، تضمدين ، تواسين ، تعزين ، تسلين ، تشاركين ، تدعين .

يا أمي أنظر إليكِ وكل رهبة ، وأنا أنظر السنوات قد أضعفت كيانكِ ، وهدت أركانكِ ، فأتذكر كم من ضمةٍ لكِ وقبلة ودمعة وزفة وخطوة جُدت ِ بها لي طائعة راضية لا تطلبين عليها أجراً ولا شكراً ، وإنما سخوتِ بها حباَ وكرماَ ، أنظر إليك تودعين الحياة وانا أستقبلها ، وتنهين العمر وأنا أبتدته فأقف عاجزاً عن إعادة شبابك الذي سكبتِه في شبابي وإرجاع قوتكِ الذي صببتِها في قوتي ، وأعضائي صنعت من لبنك ، ولحمي نُسج من لحمكِ ، وخدي غُسل بدموعكِ ، ورأسي نبت بقبلاتكِ ، ونجاحي تم بدعائك ، أرى جميلك يطوقني فأجلس أمامك خادماً صغيراً لا أذكر انتصاراتي ولاتفوقي ولا إبداعي ولا موهبتي عندك ، لأنها من بعض عطاياكِ لي ، أشعر بمكانتي بين الناس ، وبمنزلتي عند الأصدقاء ، وبقيمتي لدى الغير ، ولكن إذا جثوت عند أقدامك فانا طفلكِ الصغير ، وابنكِ المدل ، فأصبح صفراً يملأني الخجل ويعتريني الوجل ، فألغي الألقاب واحذف الشهرة ، وأشطب على المال ، وأنسى المدائح ، لأنك ام وأنا ابن ، ولأنك سيدة وأنا خادم ، ولأنك مدرسة وأنا تلميذ ، ولأنك شجرة وأنا ثمرة ، ولأنك كل شئ في حياتي ، فائذني لي بتقبيل قدميكِ ، والفضل لكِ يوم تواضعت ِ وسمحتِ لشفتي أن تمسح التراب عن أقدمك ، رب اغفر لوالدي وارحمها كما ربياني صغيراً.


مقالة للدكتور : عايض القرني - سلمه الله وجزاه الله خير-